الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. logo اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه
shape
محاضرة في شروط قبول العمل الصالح
5671 مشاهدة print word pdf
line-top
الشرط الأول في قبول الأعمال: الإخلاص

وقد ذكروا أهم الشروط، وهما شرطان: الإخلاص والمتابعة، وقد استدل على أهميتهما بقول الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا لم يقل: أيكم أكثر عملا، أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وكذلك قول الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ولم يقل أيهم أكثر.
روي عن الفضيل بن عياض -رحمه الله- أنه قرأ هذه الآية: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فقال: أخلصه وأصوبه، فقيل: ما أخلصه وأصوبه يا أبا علي ؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. ونظم ذلك الصنعاني في بائيته بقوله:
فللعمل الإخلاص شرط إذا أتى
وقد وافقتـه ســنة وكتــاب
فهذان الشرطان هما الشرطان الأساسيان لقبول العمل، وهما الإخلاص والمتابعة.
الإخلاص: هو أن يكون العمل خالصا لله تعالى، والمتابعة: أن يكون صوابا على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فنتكلم حول الإخلاص بذكر أدلته، وبذكر أمثلة من العمل الخالص وغير الخالص، ثم نتكلم أيضا على المتابعة وما يدور حولها.
فأما الإخلاص فهو: أن يكون العمل خالصا لله تعالى، ولقد أمر الله بالإخلاص فقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ فبعدما أمر بالعبادة قيدها بأن يكونوا مخلصين له الدين، وكذلك قال الله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وكذلك قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ .
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقيد الشهادة بالإخلاص فيقول: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة قيدها بالإخلاص.
الإخلاص: مشتق من الخلوص الذي هو التميز والصفاء والتوحد، الدين الخالص: هو الذي يسلم من أن يشوبه رياء، أو يشوبه سمعة، أو يشوبه ما يفسده, أو يختلط بما يكدره؛ بذلك يكون مقبولا إذا كان خالصا لله تعالى بأن يقصد بكل عمل يعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة.
فمن أضداد ذلك الرياء فإنه يجعل العمل مشوبا ومخلوطا وليس بخالص؛ ولأجل ذلك فُسرت به الآية الكريمة في سورة الكهف، قول الله تعالى لما ذكر الله تعالى العمل الصالح بقوله: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا فمن كان يريد النجاة ويريد السلامة ويريد الثواب فليعمل عملا صالحا، أي عملا خالصا سالما مما يخالطه ومما يفسده, وليخلص عمله لله ولا يشرك بعبادة ربه أحدا رياء أو سمعة أو تزلفا أو تزينا، أو ما أشبه ذلك.
وقد كثرت الأدلة في الأمر بإخلاص العمل، وبيان العمل الذي ليس بخالص وليس بصاف، وهو ما يخالطه رياء وسمعة، فثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فسألوه عن الشرك الأصغر، فقال: الرياء، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه .
وكذلك قال -صلى الله عليه وسلم- من سمَّع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به وثبت أيضا أنه -صلى الله عليه وسلم- حكى أن الله تعالى يقول للذين يراءون بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون، فانظروا هل تجدون عندهم من ثواب أعمالكم شيئا؟ ؛ يعني أنه يبطل أعمال المرائين، وأنه يحيلهم على الذين راءوهم في الدنيا، هل يثيبونكم أولئك الذين تزينتم عندهم وراءيتموهم في الدنيا؟ هل تجدون عندهم ثوابا؟ هل تجدون عندهم جزاء على أعمالكم؟
وكذلك ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه .
هذه أدلة على أن الرياء ينافي الإخلاص، وأن العبد المخلص هو الذي لا يريد بعمله إلا وجه الله، وسواء مدحه الناس أو ذموه، فهذا هو الذي عمله عمل صالح، عمله عمل خالص.
وقد ورد أيضا ما يدل على أن الرياء قد يكون شركا أكبر، وقد يحبط العمل الذي قارنه، وقد يسبب العذاب، ففي الحديث الصحيح المشهور: أول من تسعر بهم النار ثلاثة: رجل قرأ القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل غني يكثر النفقات، ولكنهم مراءون بأعمالهم فيؤتى بالقارئ والعالم يؤتى به إلى الله تعالى فيذكره الله بنعمه، ويذكره بخيره وبفضله عليه، فيقول: ماذا عملت فيها؟ فيقول: قرأت فيك القرآن، وتعلمت فيك العلم. فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت ليقال قارئ, فقد قيل. ثم يؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار. ويؤتى بالمنفق فيعرفه الله تعالى نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا عملت فيها؟ فيقول: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه. فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت. ويقول الله: إنك أنفقت ليقال جواد فقد قيل. ويؤتى بالمجاهد فيذكره الله نعمه، فيقول: ماذا عملت فيها؟ فيقول: قاتلت في سبيلك حتى قتلت. فيقول الله: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال جريء فقد قيل .
هؤلاء أعمالهم للناس أعمال صالحة. إذا رأى الناس هذا الذي يقرأ القرآن ويرتله ويتعلم العلم, ويظهر العمل به أحبوه، وقالوا: هذا هو العالم، وهذا هو المعلم، وهذا هو المربي, وهذا هو الفاضل. فمدحوه، ولكن الله تعالى مطلع على نيته, علم الله أنه ما تعلم العلم لنفع نفسه, ولا لنفع المسلمين ولكن تعلم حتى ينتشر له ذكر، وحتى يتناقل الناس أخباره؛ فيقولون: هذا هو العالم، هذا هو المعلم، هذا هو المربي، هذا هو الحافظ؛ فيمدحونه في الدنيا, ويكثر له المدح ويكثر له الثناء؛ فليس له في الآخرة قصد إنما قصده أن يمدح فيما بين الناس وأن يكثر الثناء عليه؛ فلذلك بطل عمله، حيث إنه ما أراد إلا مدح الناس وثناءهم.
كذلك أيضا الآخر المنفق الذي أعطاه الله تعالى أموالا فبذلها، فصار يتصدق ويضيف ويتكرم ويطعم الناس ويكرمهم ويكثر من الصدقات، ويكثر من النفقات؛ فيمدحونه ويقولون: هذا هو الكريم، هذا هو المنفق هذا الذي ما ادخر ماله، هذا غير بخيل، هذا الذي نفع الناس ونفع المجاهدين، ولكن الله تعالى يعلم نيته أنه ما قصد الثواب الأخروي، وإنما قصد الذكر الدنيوي، قصد المدحة بين الناس أن يقولوا: هذا... وهذا... فليس له إلا ما نواه، ليس له إلا الثواب الذي حصل له في الدنيا، وهو السمعة الحسنة، والذكر فيما بين الناس.
وأما الثالث: فهو الذي أظهر الشجاعة، وأظهر الجراءة، وأظهر القوة والبسالة, ودخل حومة الوغى, وقاتل حتى بذل نفسه وبذل روحه؛ فقُتل والناس ينظرون، ما هو الذي حمله؟ ما حمله الأمر الأخروي، ما حمله الجزاء الأوفى؛ إنما غرضه أن يكثر ذكره، وأن يثنى عليه، وأن يكثر الذين يمدحونه، والذين يرفعون من شأنه ويقولون: هو... وهو... فكان جزاؤه أن حبط عمله، لم يثب على هذا أدنى ثواب.
وهكذا يقال في كل الأعمال، فيقال مثلا: في المصلي الذي يصلي أمام الناس, يصلي إذا كان أمام الناس خشع وخضع وتواضع وأحضر قلبه, وأطال في صلاته, وواظب عليها، فإذا كان في غيبة وفي خلوة ليس عنده أحد لم يبال بالصلاة؛ فإما أنه لا يصلي، وإما أنه يصليها نقرا، لا طمأنينة، ولا حضور قلب، ولا أداء واجبات بل ينقرها نقرا، لا شك أن هذا قد أحبط عمله؛ وذلك لأنه ما صلى إلا للناس، كأنه إنما يصلي حتى يراه الناس.
وهذا أيضا وصْف المنافقين، ووصف لأهل الويل، قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ هكذا توعدهم بالويل مع أنهم يصلون، ولكن ليسوا مهتمين بصلاتهم، إنما يصلون إذا كان الناس عندهم يراءونهم بأعمالهم، وهذا أيضا وصف المنافقين، قال الله تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وصف الله المنافقين بأنهم إذا صلوا فإنما يصلون رياء، إنما يصلون مراءاة للناس, وأنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهم كارهون.
لا شك أن هذا وصف ذم لهم؛ حيث إنهم لم يصلوا لربهم؛ بل صلاتهم للناس، صلاتهم لأجل الناس لا لأجل الله تعالى، ما أكثرهم في زماننا هذا!
كثيرا ما يحصل الاتصال بنا من بعض الإخوة ومن بعض الأخوات تشتكي أو يشتكي أن أخي، أو أن زوجي لا يصلي. متى يصلي؟ يصلي إذا جاءه زوار، إذا زاره زوار استحيا، وذهب معهم وصلى معهم، أما إذا لم يأته أحد فإنه لا يصلي, يصلي إذا سافر مع أحد رفقته، إذا سافر -مثلا- لرحلة أو لنزهة وكان معه بعض الإخوان الذين يستحيي منهم أخذ يصلي مراءاة.
إذن فماذا تفيده هذه الصلاة التي هي صلاة مؤقتة، أو صلاة للناس؟ صلاة لا لله تعالى، العمل لا بد أن يكون لله لا للناس، فالذي يصلي لأجل أن يقال: فلان يحافظ على الصلاة، هذا أيضا صلاته مردودة.
وكان بعض أهل الخير يتصدقون بصدقات, ويشترطون أن يكون الذي يستحقها من المحافظين على الصلاة، فيأتي بعض الناس ليطلب هذه الصدقة، فيقال: ائتنا بتزكية من إمام هذا المسجد الذي حولك، فإذا علم أنه لا يعطيه إلا بأن يصلي حافظ على الصلاة خمسة أيام، أو عشرة أيام، وينصب وجهه أمام الإمام, فيسلم عليه فإذا عرفه أعطاه تزكية أنه يصلي، فإذا حصل على تلك التزكية انقطع عن الصلاة وتركها, فيكثر مثل هذا، إذن ما الذي حمله على هذه الصلاة؟ ليس إلا أنه يريد مصلحة دنيوية.
لا شك أيها الإخوة أنه كثر الذين يصلون للدنيا، أو يصلون لأجل المدح، أو يصلون رياء وسمعة؛ فلا تقبل منهم صلاتهم, ماذا تكون حالتهم؟ حالتهم أنهم يعبدون الناس لا يعبدون الله تعالى, قد أخلوا بشرط من شروط العمل قبوله ألا وهو كون العمل خالصا لوجه الله تعالى، فإن إرادة وجه الله تعالى بالعمل تقتضي أن يكون قصده الله والدار الآخرة.
كما ذلك وصْف عباد الله تعالى، قال الله تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ هكذا وصفهم: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ في أول النهار وفي آخره، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ لا يريدون إلا وجه الله، لا يريدون إلا رضاه، لا يريدون إلا ثوابه، لا يريدون سوى ذلك؛ فهؤلاء هم الذين أمره بأن يكونوا جلساءه.
وقال تعالى في آية أخرى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ هكذا وصفهم، هؤلاء هم المخلصون الذين يريدون وجه الله تعالى، وهكذا أيضا حكى عنهم أهل الجنة الذين مدحهم بقوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ هذا دليل إخلاصهم أنهم إذا تصدقوا بصدقة أرادوا بها وجه الله تعالى، ولا يتبعونها منا، ولا يتبعونها أذى، ولا يقصدون بذلك رياء ولا غير ذلك، فهؤلاء حقا هم الذين يثيبهم الله، ويجزيهم الجزاء الأوفى.
يكثر في هذه الأزمنة الذين يبذلون المال، يبذلون أموالا كثيرة, وقد تحبط أعمالهم، روي عن بعض السلف أنه قال: من أعطاني عطية ثم ذكرنيها فقد دخل في المنة التي تبطل الصدقة، وهي قول الله تعالى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى فجعل الصدقة تكون سببا لإبطال العمل لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى .
فنقول: أيها المتصدق، وأيها المنفق عليك أن تقصد وجه الله تعالى، وتقصد الدار الآخرة بعملك, ولا ترد بذلك رياء ولا سمعة ولا تمدحا ولا غير ذلك؛ رجاء أن يقبل الله تعالى عملك ويثيبك عليه؛ فإذا قصدت الرياء والسمعة بطلت صدقتك، قد يكون هناك أدلة، أدلة على أن هناك من يرائي بصدقاته؛ وذلك لأن هناك من إذا جاء إليه من يستعطيه من الوجهاء والقواد ومشاهير الناس أعطاه ألفا أو عشرة آلاف أو ما أشبه ذلك، وإذا أتاه فقير ومسكين ضعيف ربما أنه جائع أعطاه خمسة أو عشرة ريالات.
لماذا زاد في عطية ذلك الكبير أو ذلك الشهير أو الوزير أو نحوه؟ لأنه سوف يذكره عند الناس، فيقول: أتيت إلى فلان التاجر فأعطاني ومنحني وزادني ووسع علي. فكان هذا ما قصد بصدقته وجه الله خالصا حيث إنه تصدق بصدقة يريد شهرتها، ويريد انتشار خبرها، ويريد أن يمدح في المجالس ويثنى عليه بين الناس.
إذن فنعرف بذلك أن الذين يقصدون بصدقاتهم الرياء والسمعة تبطل صدقاتهم، كثير منهم مثلا إذا استضاف إنسانا إذا عمل كرمة، أو حفلة أو نحوها أنفق عليها عشرة آلاف أو عشرين ألفا أو نحو ذلك؛ لأنه يدعو إليها الوجهاء، ويدعو إليها أكابر الناس ووجهاءهم وأثرياءهم ومشاهيرهم، فإذا طرقه ضعفاء وطلبوا منه قوتا، أو عشاء لم يتكلف، لم ينفق إلا ما يقرب من عشرين أو خمسين ريالا في إكرام هؤلاء وفي قوتهم.
لا شك أن مثل هؤلاء يقصدون بذلك السمعة؛ فيدخلون في حديث: من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به .
فنعرف بذلك -من هذه الأمثلة- أن هذا الرياء هو الذي يسود الناس في هذه الأزمنة، وأنهم يقصدون بكثير من أعمالهم المدحة والثناء بين الناس.
وهكذا أيضا يقال في كثير من الأعمال، الأعمال الصالحة, من ذلك تعلم العلم لأجل الدنيا، وما أشد خطره! ما أكثر الذين يتعلمون العلم الذي يبتغى بها وجه الله، وليس لهم قصد إلا المصالح الدنيوية!
نعرف أن تعلم العلم، وقراءة القرآن عمل صالح؛ لأن الإنسان إذا تعلم فأولا: يقصد تكملة نفسه؛ لأن الجهل نقص والعلم كمال.
وثانيا: ينوي أن يعمل على نور؛ لأنه إذا عمل وهو جاهل فإن عمله لا يقبل.
وثالثا: أن يكون من حملة هذا العلم يشرف بحمله؛ لأنه يكون من حملة القرآن ومن حملة العلم.
ورابعا: أن ينفع الأمة ويكون مرجعا يرجعون إليه، ويفيدهم ويعلمهم ويفقههم؛ فيكون بذلك قد نفع الأمة.
إذا كانت هذه نيتك فهنيئا لك أنك من الذين عملوا صالحا، ومن الذين يثيبهم الله على تعلمهم، لكن الذي يتعلم لأجل أن يحصل على المؤهل الدراسي، يقول: أتعلم حتى أحصل على شهادة، ثم يفتخر بهذه الشهادة، ويفتخر إذا قيل: هذا يحمل شهادة كذا وكذا, ومع ذلك ومع قطعه لهذه المراحل ينسى أو يغفل عن هذا العلم الذي تعلمه لا يعمل به ولا يعلِّمه.
كثير منهم بعدما يحصلون على ذلك المؤهل يحرقون كتبهم، أو يبيعونها، الكتب التي تعلموا فيها، الكتب الدراسية، يبيعونها، إذا دخلت في مكتباتهم، أو في بيوتهم لا تجد فيها شيئا من العلوم الإسلامية، من الكتب الإسلامية بل إنما كتب تراجم، أو كتب تاريخ، أو كتب علوم حديثة، أو كتب صناعية، أو هندسية أو نحو ذلك، أين هي تلك العلوم التي تعلمتموها؟ أين تلك الكتب التي قرأتموها أين هي؟ نسينا، تسألهم عن حكم من الأحكام فلا تجد عنده جوابا، تسأله عن معنى آية من القرآن فلا تجد عنده جوابا.
لا شك أن مثل هذا أيضا يعتبر قد أفسد عمله حيث إنه ما نوى به إلا رتبة ووظيفة وعملا دنيويا.
لقد كان السلف -رحمهم الله- يحرصون على أن يتعلموا العلم لله تعالى، وأن لا يأخذوا عليه عوضا، ذكروا أن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- كان تاجرا عنده تجارة كبيرة، ويقول: إنني أنفق على العلماء الذين هم محدثون, أنفق عليهم وأغنيهم عن الأعمال الدنيئة وعن الوظائف الدنيئة، فبلغه أن إسماعيل ابن عُلية -وهو أحدهم- قد تولى القضاء, فأسف لذلك وقطع عنه صلته التي كان يصله بها، وأرسل إليه أبياتا يعاتبه فيها، ويقول فيها:
يا جاعـل العلـم لـه بـازيـا
يصطـاد أمـوال المسـاكــين
احتلـت للـدنـيـا ولـذاتـهــا
بحيـلـة تــذهـب بـالـديــن
وصرت مجنـونـا بهـا بعـدمـا
كــنـت دواء للـمـجــانــين
أين روايـاتـك فيـمـا مـضـى
عن تـرك أبــواب الســلاطـين
أيـن روايـاتـك فـي سـردهـا
عن ابن عـون وابـن سـيـريـن
إن قلـت أكـرهـت فـذا بـاطـل
زل حمـار العـلـم فـي الطــين
هكذا شبهه.
لما جاءت هذه الأبيات إلى إسماعيل -رحمه الله- جاء إلى الوالي وقال: أقلني، أقلني من هذا العمل، لا أريدكم ولا أريد عملكم، أنا ما تعلمت لأجل الدنيا، ما تعلمت إلا لأجل الدار الآخرة. فرجع إليه ابن المبارك ما كان يعطيه من النفقة، فهؤلاء هم أهل الإخلاص الذين يتعلمون العلم لله تعالى، لا لعرض من الدنيا.
روي عن بعض السلف أنه سئل، قيل له: ما الذي يذهب العلم من الصدور؟ فقال: يذهبه الطمع وشَرَه النفس, وتطلب الحاجات إلى الناس.
بمعنى أن الإنسان يكون عالما متعلما حافظا، ثم بعد ذلك تذهب تلك العلوم من ذاكرته فلا يبقى عنده علم، ما الذي أذهب تلك المعلومات؟ الذي أذهبها هو طمعه في الدنيا، طمعه في الوظائف، وطمعه في المناصب وما أشبه ذلك.
ثم إنا نقول: إن الوظائف الدينية التي يتوقف العمل فيها على مؤهل لا بأس أن يتولاها، ولكن يجعل نيته صالحة؛ وذلك لأنه لا بد منها، فنحن نقول: لا بد من أن يتولى القضاء, ولا بد من أن يكون هناك معلمون, ولا بد أن يكون هناك خطباء ودعاة وأئمة ومؤذنون ونحو ذلك، ولكن ننصح من يتولى مثل هذا أن تكون نيته صالحة، نيتك إذا كنت معلما أن تنفع الناس وتفقههم، وتنفق من العلم الذي تعلمته؛ حتى لا يذهب، وحتى لا تنساه، فإنه:
يزيد بكـثرة الإنفــاق مـنــه
وينقص إن بـه كفـا شـــددتا
ونيتك -مثلا- إذا كنت في الدعوة، تعينت داعية أن تنفع الناس، ولو كنت -مثلا- قد تحصل على وظيفة، أو على مرتب من بيت المال تنفقه على نفسك وفي حاجاتك، وهكذا تكون نيتك إذا توليت قضاء، أو توليت حسبة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذه كلها من الأمور الضرورية التي لا بد من تعلمها.
ولكن لا بد أن تكون النية صادقة، وأن تكون النية صالحة؛ حتى لا يكون من الذين قصدهم الدنيا والعمل الدنيوي والمصالح الدنيوية.
فتقول: أحافظ على المسجد كإمام أو خطيب؛ لأنفع الناس وأستعين بما آخذه على حياتي، وكذلك أيضا أحافظ على التعليم، وأعلم أولاد المسلمين، أو أعلم شبابهم؛ حتى أنفعهم وحتى أنقذهم من الجهل وحتى أخلف من تعليمه تعليم سوء أو نحو ذلك.
أتولى الحكم بين الناس؛ حتى أنفع الناس، وحتى لا يتولى هذا الأمر من ليس كفئا، وليس أهلا له أو ما أشبه ذلك، فإذا كانت هذه نيتك فأنت مثاب إن شاء الله، فأما الذي ليس له نية إلا المصالح الدنيوية فإنه يخاف أن يحبط عمله.
ورد في الحديث قول النبي -صلى الله عليه وسلم- تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش عبر بالعبودية: عبد الدينار، عبد الدرهم، عبد الخميصة، الخميصة والخميلة: أنواع من الأكسية، والدرهم: قطعة من الفضة، والدينار: كذلك أيضا قطعة من الذهب يتعامل به.
متى يكون عبدا له؟ يحب لأجل الدرهم، ويبغض لأجل الدرهم، ويوالي لأجل الدرهم، ويعادي لأجل الدرهم، ويعطي لأجل الدرهم، ويمنع لأجل الدرهم، وهكذا البقية يحب لأجلها ويبغض لأجلها؛ ولهذا وصفه بقوله: إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض فمثل هذا كيف تكون أعماله؟ الواجب أن الإنسان تكون هذه كلها لله تعالى؛ حتى يثاب.
أنت مثلا إذا أحببت إنسانا فإن كانت محبتك طاعة فلك أجر، وإن كانت محبتك لدنيا فليس لك أجر، وإن كانت محبتك لمعصية له فعليك وزر.
إذن فهي محبة واحدة، مودة في القلب تندفع نحو إنسان، تندفع هذه المودة نحو هذا الإنسان، فإذا سألناك: لماذا تحبه ولماذا تكرمه ولماذا تقدمه؟ فإن قلت: إنه عبد صالح، إنه مصلح، إنه محافظ على الصلوات, إنه من حملة كتاب الله، إنه نزيه العرض, إنه سلم الناس من سبه أو من شتمه أو نحو ذلك، لا يتعرض لأحد, إنه محافظ على الصلوات، مؤد للفرائض، صائم، مزك، قائم بالواجبات، لم يقترف سوءا، ما رأيته ولا علمت أنه ركب منكرا، لا يغتاب، ولا ينم، ولا يشتم، ولا يسيء الصحبة، ولا يلعن، ولا يقذف، ولا يشرب خمرا ولا دخانا ولا ... ولا...
فهنيئا لك أنك أحببته, ولك أجر على هذه المحبة، فهذا من صحة العمل، أن العمل صحيح وأنه مقبول.
أما إذا قلت: أحبه لقرابة ولصداقة ولصحبة ولجوار ولزمالة, فهو زميلي وهو جاري وهو قريب لي وهو صديق, وأسافر معه وأجالسه، أزوره ويزورني، وأكرمه ويكرمني. فهذه محبة دنيوية ليس لك فيها أجر؛ لأنها محبة عادية, فإن كان صالحا فاجعل محبتك لصلاحه زيادة على صداقته.
أما إذا قلت: أحبه لأنه يساعدني على ما أريد، إذا أردت شيئا ساعدني عليه, فهو يحضر لي أشرطة الأغاني، وهو يحضر لي الأفلام التي أتفرج عليها، وهو يساعدني -مثلا- على شراء الخمور وعلى إحضار الدخان -مثلا- وهو يساعدني إذا سافرت إلى البلاد الخارجية، أسافر لأجل أن أتمتع وأرفه عن نفسي، وأحضر المسارح، وأحضر الأغاني، وأمتع نفسي بما تشتهيه من زنا ومن كذا وكذا، أحببته لذلك، فبئس المحبة! أحببته على معصية؛ فأنت معاقب على هذه المحبة.
فعرفت بذلك أن الناس في هذا العمل الذي هو عمل قلبي منهم من يثاب، ومنهم من يعاقب، ومنهم من هو خاسر في محبته؛ إذن فنعرف بذلك أن الناس يتفاوتون في مثل هذه الأعمال.
لعلنا نكتفي بهذا فيما يتعلق بالإخلاص.

line-bottom